الإخلاص: تعريفه وفضله وحكمه
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وبعدُ:
أيها المسلمون الفضلاء:
إن الإخلاص للهِ تعالى هو أساس كل عملٍ، وغايةُ كل مُرِيد، فعملٌ بلا إخلاص لا أجرَ له، وصلاةٌ بلا إخلاص لا ثواب لها، وصدقةٌ بلا إخلاص لا قيمة لها.
وما وصل أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما وصَلوا إليه إلا بإخلاصهم وصدقهم، ومِن هنا جعلت عُنوان خطبتي هذه (كيف تكون مخلصًا؟).
قلوبُ المُخلِصينَ لها عيونٌ
ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحةٌ تطيرُ بغيرِ ريشٍ
إلى ملكوت ربِّ العالمينا
فتسقيها شرابَ الصدق صِرْفًا
وتشرب مِن كؤوس العارفينا
أولًا: حقيقة الإخلاص:
الإخلاص: إفراد الحق بالقصد.
وقال إبراهيم بن أدهمَ: الإخلاص صدقُ النية مع الله.
وقال سهل بن عبدالله: الإخلاص أن يكون سكونُ العبد وحركاته لله.
وقال أبو عثمان: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.
وقيل: صرف العمل مُتقربًا به إلى الله وحدَه لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلبًا للدنيا، ولا تصنُّعًا للخلق؛ وإنما يرجو به ثواب الله تعالى، ويخشى عقابه، ويطمَع في رضاه.
مَن المخلص؟
هو الذي يعمل ولا يحب أن يحمَدَه الناس.
وقال يعقوب المكفوف: المخلص: من يكتم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه.
وقيل: المخلص: مَن يستوي عنده مادحُه وذامُّه.
ثانيًا: حكم الإخلاص:
الإخلاص: فرضٌ واجبٌ في حقِّ كل مسلم ومسلمة.
1- أمر الله عباده بالإخلاص في العبادة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، بل أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذاتَه بإخلاص العبادة لله، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2].
2- وأمر الله عباده بإخلاص الدعاء له؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [الأعراف: 29]، وقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
ثالثًا: فضل الإخلاص:
1- الإخلاص يُنجيك من إضلال الشيطان وإغوائه:
قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 - 83]، قرأ الكوفيون ونافعٌ والحسنُ والأعرج: (المخلَصين) بالفتح، وباقي السبعة والجمهورُ بالكسر: (المخلِصين).
2- الإخلاص يورثك نعيم الجنة:
قال تعالى: ﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ *كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 39 - 49].
3- الإخلاص يُطهِّر قلبَك مِن الحقد والغلِّ والخيانة:
روى أحمد وابن ماجه - وصحَّحه الألباني - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم))[1].
والمعنى: أن هذه الثلاث لو تمسَّك بها العبدُ طهُر قلبُه مِن الحقد والغل.
4- الإخلاص طريق النصر:
روى النسائي - بسند صحيح - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما ينصر الله هذه الأمَّةَ بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم))[2].
فأخلِصِ العملَ لله تَنَلِ الرفعةَ في الدنيا والنعيم في الآخرة:
لَعَمْرُك إن المجدَ والفخر والعلا
ونَيْلَ الأماني واكتسابَ الفضائلِ
لِمَنْ يُخلِصُ الأعمال لله وحدَهُ
ويُكثِر مِن ذكرٍ له في المنازلِ
وفي المساجدِ والأسواق يذكره
وَيَشْغَلُهُمْ فِي ذِكْرِهِ فِي الْمَحَافِل
5- الإخلاص يفرج الهموم ويزيل الكروب:
وهذا واضحٌ من حديث الثلاثة الذين آوَوا إلى الغار؛ حيث نجَّاهم الله تعالى بإخلاصهم.
رابعًا: نماذج من حياة المخلصين[3]:
1- الإخلاص في صلاة التطوع:
فضل الصلاة:
في (صحيح مسلم) قال النبي صلى الله عليه وسلم لثَوْبانَ: ((عليك بكثرةِ السُّجود؛ فإنَّك لا تسجُد للهِ سجدةً إلا رفَعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً)).
وعند الطبراني في (الأوسط) - وحسَّنه الألباني في (صحيح الترغيب) (390) -: ((الصلاة خير موضوعٍ، فمَن استطاع أن يستكثر فليستكثر)).
الربيع بن خُثيم:
الذي قال له ابن مسعود: (يا أبا يزيد، لو رآك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأحبَّك)، ما رُئي متطوعًا في مسجد قومِه قط إلا مرة واحدة.
منصور بن المعتمر:
كان إذا صلى الفجرَ أظهر النشاط لأصحابه، ويملي عليهم الحديث، ولعله بات قائمًا على أطرافه، كلُّ ذلك ليُخفي عنهم العمل.
محمد بن أسلم:
يقول: (لو قدرت أن أتطوَّع حيث لا يراني ملكاي لفعلتُ؛ خوفًا من الرياء).
عبدالله بن المبارك:
يقول عنه محمد بن أعين: (كان ذات ليلة ونحن في غَزاةِ الروم، ذهب ليضع رأسه ليُريني أنه ينام، فقلت أنا برمحي في يدي قبضت عليه، ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك، قال: فظنَّ أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، وأنا أرمُقُه، فلما طلع الفجر أيقظني وظن أني نائمٌ، وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنَم، قال: فلما سمِعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاتِه كلِّها، كأنه لم يُعجِبه ذلك مني، لما فطِنتُ له من العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أرَ رجلًا أسرَّ بالخير منه).
أيوب السختياني:
كان يقوم الليل كلَّه، فيُخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
عمر بن عبدالعزيز: كان له دراعةٌ من شَعر وغُلٌّ، وكان له بيتٌ في جوف بيت يصلي فيه، لا يدخل فيه أحدٌ، فإذا كان في آخر الليل فتح ذلك السفط[4]، ولبِس الدراعة ووضع الغُلَّ في عنقه، فلا يزال يناجي ربَّه ويبكي حتى يطلع الفجر.
قال كعب الأحبار: (مَن تعبَّد لله ليلة حيث لا يراه أحدٌ يعرفه، خرج مِن ذنوبه كما يخرج من ليلته).
حسان بن أبي سنان: تقول عنه زوجه: (كان يجيء فيدخل في فراشي، ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيَّها، فإذا علِم أني قد نمت سَلَّ نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي، قالت: فقلت له: يا أبا عبدالله، كم تُعذِّب نفسك، ارفُقْ بنفسك، فقال: ويحَكِ، اسكتي، يُوشِك أن أرقد رقدةً لا أقوم منها زمانًا).
2- الإخلاص في الصدقة:
في (الصحيحين): ((سبعةٌ يُظِلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...))، وذكر منهم: ((ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينُه))[5].
وثبت عند الطبراني والترمذي - وصحَّحه الألباني في (صحيح الجامع) - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صدقةُ السر تُطفِئ غضب الرب))[6].
زين العابدين بن علي بن الحسين: كان يحمل جرابَ الخُبز على ظهره بالليل ويتصدق به، ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب).
قال عمرو بن ثابت: لَمَّا مات علي بن الحسين فغسَّلوه جعَلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره، فقالوا: ما هذا؟، قالوا: (كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره يعطيه فقراء المدينة).
وقال محمد بن إسحاق: (كان ناسٌ من المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به في الليل).
قال شيبة بن نعامة: (كان علي بن الحسين يُبَخَّل، فلما مات وجدوه يقُوتُ مائة أهل بيت بالمدينة).
عبدالله بن المبارك: يقول عنه محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شابٌّ يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبدالله مرةً فلم يَرَه، فخرج في النفير مستعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوسٌ على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزَن له عشرة آلاف، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فأُخرج الرجل، وسار ابن المبارك، فلحِقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: يا فتى، أين كنت، لم أرَك؟ قال: يا أبا عبدالرحمن، كنت محبوسًا بدَيْن، قال: وكيف خلصتَ؟ قال: جاء رجلٌ فقضى ديني ولم أدرِ، قال: فاحمَدِ الله تعالى، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبدالله بن المبارك رحمه الله.
3- الإخلاص في الصوم:
داود بن أبي هند:
صام داود بن أبي هند أربعين سَنةً لا يعلَمُ به أهله ولا أحدٌ، وكان خزَّازًا[7] يحمل معه غداءَه مِن عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًّا فيُفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهلُه أنه قد أكل في السوقِ.
عمرو بن قيس الملائي: أقام عشرين سنةً صائمًا، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم، وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرِّقَّةُ، يحوِّل وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشدَّ الزكامَ![8]
إبراهيم بن أدهم:
يقول إبراهيم بن أدهم: لا تسأَلْ أخاك عن صيامه، فإن قال: أنا صائمٌ، فرِحَت نفسه بذلك، وإن قال: أنا غير صائم، حزنَتْ نفسه، وكلاهما من علامات الرياء، وفي ذلك فضيحةٌ للمسؤول، واطلاعٌ على عوراته من السائل.
4- الإخلاص في الذكر وقراءة القرآن:
قالت سُرِّيَّةُ[9] الربيع بن خثيم: كان عمل الربيع كله سرًّا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيُغطيه بثوبه.
إبراهيم النخعي:
كان إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطَّاه.
إمام أهل السنة أحمد بن حنبل:
يقول عنه تلميذه أبو بكر المَرُّوذي: (كنت مع أبي عبدالله نحوًا من أربعة أشهر بالعسكر، وكان لا يدع قيام الليل وقراءة القرآن بالنهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يُسِرُّ ذلك).
وقال الإمام أحمد: (أشتهي ما لا يكون...، أشتهي مكانًا لا يكون فيه أحدٌ من الناس).
شيخ الإسلام: كان إذا أصبح النهار يخرج إلى الصحراء، ويقول متمثلًا:
وأخرُجُ مِن بين البيوتِ لعلَّني ♦♦♦ أُحدِّثُ عنك القلبَ بالسرِّ خاليَا
5- الإخلاص في البكاء:
سفيان الثوري: هذا العالم العابد، له مع الفُضيل بن عِياض - طبيبِ القلوب - وقفةٌ يحكيها لنا الأصبهاني في (حلية الأولياء)[10]، فيقول:
التَقَى سفيان الثوري وفُضَيل بن عِياض فتذاكَرَا، فبكيا، فقال سفيان: إني لأرجو أن يكون مجلسُنا هذا أعظم مجلس جلسناه بركةً، قال فضيلٌ: ترجو، لكني أخاف أن يكون أعظم مجلس جلسناه علينا شؤمًا، أليس نظرتَ إلى أحسن ما عندك، فتزينتَ به لي، وتزينتُ لك به، فعبدتَني وعبدتُك، قال: فبكى سفيان حتى علا نحيبُه، ثم قال: أحياك الله كما أحييتَني.
وهذا أيوب السختياني: كان إذا وعظ فرَقَّ، فَرِقَ[11] من الرياء، فيمسَح وجهه ويقول: ما أشدَّ الزكامَ!
الحسن البصري:
يقول الحسن البصري: (إن كان الرجل لَيجلسُ المجلس، فتجيئه عبرتُه فيردُّها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فأيها المسلمون الفضلاء، نواصل معًا ذكر نماذج من حياة المخلصين:
أبو وائل: كان إذا صلى في بيته ينشج نشيجًا، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحدٌ يراه، ما فعله.
ويقول محمد بن واسع: لقد أدركت رجالًا، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالًا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدِّه، ولا يشعر به الذي إلى جنبه.
وكان يقول أيضًا: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنةً وامرأتُه معه لا تعلم به.
سفيان بن عُيَيْنة: قال: أصابتني ذات يوم رقةٌ فبكيتُ، فقلت في نفسي: لو كان بعض أصحابنا لرقَّ معي، ثم غفوت، فأتاني آتٍ في منامي فرفسني، وقال: يا سفيان، خُذْ أجرَك ممَّن أحببتَ أن يراك.
ابن المبارك: يحكي عنه القاسم بن محمد قال: كنا نُسافِر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطر ببالي، فأقولُ في نفسي: بأي شيء فُضِّل هذا الرجلُ علينا حتى اشتَهَر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان يصلي إنَّا لنُصلي، وإن كان يصوم إنَّا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحج إنَّا لنحج.
قال: فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلةً نتعشى في بيتٍ، إذ طُفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج، وخرج يستصبح[12]، فمكث هُنَيْهَة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظُلمةٍ ذكر القيامة.
محمد بن أسلم الطوسي: يقول عنه خادمه أبو عبدالله: (كان محمد يدخل بيتًا ويُغلق بابه، ويُدخل معه كوزًا من ماء، فلم أدرِ ما يصنع حتى سمِعتُ ابنًا صغيرًا له يبكي بكاءه، فنهَتْه أمه، فقلت لها: ما هذا البكاء؟ فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت، فيقرأُ القرآن ويبكي، فيسمعه الصبي فيحاكيه، فكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه، فلا يُرى عليه أثرُ البكاء.
وكان يصلُ قومًا ويعطيهم ويكسُوهم، فيبعث إليهم، ويقول للرسول: انظُرْ ألا يعلموا مَن بعثه إليهم، فيأتيهم هو بالليل، فيذهب به إليهم، ويُخفي نفسه، فربما بليت ثيابهم، ونفد ما عندهم، ولا يدرون من الذي أعطاهم.
لمَّا مات الطوسي قالوا لأحمد بن نصر: يا أبا عبدالله، صلى عليه ألف ألف من الناس، وقال بعضهم: ألف ألف ومائة ألف من الناس، يقول صالحهم وطالحهم: لم نعرف لهذا الرجل نظيرًا، فقال أحمد بن نصر: يا قوم، أصلِحوا سرائركم بينكم وبين الله تعالى، ألا ترون رجلًا دخل بيته بطوس، فأصلح سرَّه بينه وبين الله تعالى، ثم نقله الله إلينا، فأصلح الله على يديه ألف ألف ومائة ألف من الناس.
6- الإخلاص في الدعاء:
قال ابن المنكدر: إني لليلةً حِذاءَ هذا المنبر جوفَ الليل أدعو، إذا إنسانٌ عند أسطوانة مُقنِّعٌ رأسه[13]، فأسمَعُه يقول: أيْ ربِّ، إن القحط قد اشتدَّ على عبادك، وإني مُقسِمٌ عليك يا رب إلا سقيتَهم، قال: فما كان إلا ساعة، إذا بسحابة قد أقبَلت، ثم أرسَلَها الله سبحانه، وكان عزيزًا على ابن المنكدر أن يَخفَى عليه أحدٌ من أهل الخير، فقال: هذا بالمدينة ولا أعرفه؟! فلما سلَّم الإمام، تقنَّع وانصرف، فاتَّبعه، ولم يجلس للقاصِّ حتى أتى دار أنس، فدخل موضعًا، وأخرج مفتاحًا ففتح ثم دخل، قال: ورجعت، فلما سبَّحتُ[14] أتيته، فإذا أنا أسمع نجرًا في بيته، فسلَّمت ثم قلت: أدخل؟ قال: ادخل، فإذا هو ينجر أقداحًا يعملها، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ قال: فأعظَمَها مني، فلما رأيت ذلك، قلت: إني سمعت إقسامك البارحة على الله عز وجل، يا أخي، هل لك في نفقةٍ تغنيك عن هذا، وتُفرغك لما تريد من الآخرة؟ فقال: لا، ولكنْ غيرَ ذلك، لا تذكُرني لأحدٍ، ولا تذكر هذا عند أحد حتى أموت، ولا تأتني يا بن المنكدر؛ فإنك إن تأتني شَهَرتَني للناس، فقلت: أحبُّ أن ألقاك، قال: القَنِي في المسجد، وكان فارسيًّا، قال: فما ذكَرَ ذلك ابن المنكدر لأحد حتى مات الرجل، قال ابن وهب: بلغني أنه انتقل من تلك الدار، فلم يرَه، ولم يدرِ أين ذهب، فقال أهل تلك الدار: الله بيننا وبين ابن المنكدر؛ أخرَجَ عنا الرجلَ الصالح.
7 - الإخلاص في العلم:
قال الشافعي: (وددتُ أن الخَلْق تعلَّموا هذا العلم، على ألا يُنسب إليَّ حرفٌ منه).
هشام الدَّسْتُوَائي: يقول: (واللهِ، ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجهَ الله عز وجل)!
قال الذهبي: والله، ولا أنا، فقد كان السلفُ يطلبون العلم لله فنَبُلوا.
أبو الحسن الماوردي: شيخ الشافعية، قيل: إنه لم يُظهر شيئًا من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته، قال لمَن يثق به: الكتب في المكان الفلاني، كلها تصانيفي، وإنما لم أظهرها؛ لأني لم أجد نيَّة خالصة، فإذا عاينت الموت ووقعت في النزع، فاجعَلْ يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها، فاعلم أنه لم يُقبَل مني شيء منها، فاعمِدْ إلى الكتب وألقِها في دِجْلَة، وإن بسطتُ يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قد قُبلت، وأني قد ظفِرتُ بما كنت أرجوه من النية.
قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعتُ يدي على يساره، فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القَبول، فأظهرت كتبه بعده.
اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل.
الدعاء...
[1] صحيح: أخرجه ابن ماجه (230)، وأحمد في (المسند) (5/ 183)، والدارمي، (229)، وابن حبان في (صحيحه) (67، 68)، وابن أبي عاصم في (السنة) (1087)، كلهم من طريق زيد بن ثابت.
وفي الباب عن ابن مسعود: أخرجه الترمذي (2658)، وابن أبي عاصم في (السنة) (1086).
وفي الباب أيضًا عن جُبَير بن مطعم: أخرجه أحمد (4/ 80، 82).
وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) (1088)، وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (6766).
[2] أخرجه البخاري بنحوه مختصرًا (2896)، والنسائي (3178)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (6/ 331)، وأبو نُعيم في (الحلية) (5/ 26).
[3] صلاح الأمة؛ للعفاني (1/ 110).
[4] السفط: مثل الجوالق؛ يعني: الشوال أو الكيس من الخيش.
[5] رواه البخاري (660)، ومسلم (1031).
[6] حسن: رواه الترمذي (1/ 129)، وابن حبان (816)، وغيرهما، وصححه الألباني بشواهده في (السلسلة الصحيحة) (1908)، و(إرواء الغليل) (3/ 392)، و(صحيح الجامع) (3759، 3760).
[7] كان يبيع الخز، وهو نوع من الثياب.
[8] إذا حضرته الرِّقة، يعني: إذا رقَّ قلبه ودمعت عينه في الموعظة، أخفى ذلك عنهم.
[9] السُّرية: هي الأَمَة التي يتسرَّى بها.
[10] الحلية (7/ 64).
[11] فَرِقَ: خاف.
[12] يستصبح: يوقد المصباح.
[13] قال في (لسان العرب): المقنع الذي يرفع رأسه ينظر في ذُل.
[14] سبَّح: أي: صلى سُبحة الضحى.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/125650/#ixzz5vbMRwKjT